فصل: مناسبة الآية لما قبلها:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.فوائد لغوية وإعرابية:

قال السمين:
قوله: {إِذْ تَلَقَّوْنَهُ}:
{إذْ} منصوبٌ ب {مَسَّكُمْ} أو ب {أَفَضْتُمْ}. وقرأ العامَّةُ {تَلَقَّوْنه}. والأصلُ: تَتَلَقَّوْنه فحُذِفَتْ إحدى التاءَيْن ك {تَنَزَّلُ} [القدر: 4] ونحوه. ومعناه: يتلقَّاه بعضُكم من بعض. والبزيُّ على أصله: في أنه يُشَدِّد التاءَ وصلًا. وقد تقدَّم تحقيقُه في البقرة نحو {وَلاَ تَيَمَّمُواْ} [البقرة: 267] وهو هناك سَهَّلَ لأنَّ ما قبله حرفُ لِيْنٍ بخلافِه هنا. وأبو عمرو والكسائي وحمزةُ على أصولِهم في إدغامِ الذالِ في التاء. وقرأ أُبَيّ {تَتَلَقَّوْنَه} بتاءين، وتقدَّم أنها الأصلُ. وقرأ ابن السميفع في روايةٍ عنه {تُلْقُوْنَه} بضمِّ التاءِ وسكونِ اللام وضمِّ القافِ مضارِعَ ألقى إلقاءً. وقرأ هو في روايةٍ أخرى {تَلْقَوْنه} بفتح التاءٍ وسكونِ اللامِ وفتحِ القاف مضارع لَقِيَ.
وقرأ ابنُ عباس وعائشةُ وعيسى وابنُ يعمر وزيد بن علي بفتحِ التاءِ وكسرِ اللامِ وضَمِّ القافِ مِنْ وَلَقَ الرجلُ إذا كَذِبَ. قال ابن سيده: جاؤوا بالمتعدي شاهدًا على غير المتعدي. وعندي أنه أراد تَلِقُوْن فيه فحذف الحرف ووصل الفعلُ للضمير. يعني أنهم جاؤوا ب {تَلِقُوْنه} وهو متعدٍ مُفَسَّرًا ب {تُكذِّبون} وهو غيرُ متعد ثم حَمَّله ما ذكر. وقال الطبري وغيره: إن هذه اللفظةَ مأخوذةٌ من الوَلْقِ وهو الإِسراعُ بالشيءِ بعد الشيءِ كعَدْوٍ في إثْرِ عَدْوٍ وكلامٍ في إثرِ كلامٍ يُقال: وَلَقَ في سَيْرِه أي: أسرع وأنشد:
جاءَتْ به عَنْسٌ من الشَّأْمِ تَلِقْ

وقال أبو البقاء: أي: تُسْرعون فيه. وأصله من الوَلْقِ وهو الجنون.
وقرأ زيد بن أسلم وأبو جعفر {تَأْلِقُوْنه} بفتح التاء وهمزةٍ ساكنةٍ ولامٍ مكسورةٍ وقافٍ مضمومةٍ من الأَلْقِ وهو الكذبُ. وقرأ يعقوب {تِيْلَقُوْنه} بكسر التاءِ من فوقُ، بعدها ياءٌ ساكنةٌ ولامٌ مفتوحةٌ وقافٌ مضمومةٌ، وهو مضارع وَلِق بكسر اللامِ كما قالوا يِْيجَلُ مضارعَ وجِل.
وقوله: {بِأَفْوَاهِكُمْ} كقوله: {يَقُولُونَ بِأَفْوَاهِهِم} [آل عمران: 167] وقد تقدَّم.
قوله: {ولولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ}: كقوله: {لولا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ} [الآية: 12] ولكن لا التفاتَ فيه. وقال الزمخشري: فإن قلت: كيف جاز الفصلُ بين {لولا} و{قُلْتم}. قلت: للظروفِ شأنٌ ليس لغيرِها لأنها لا يَنْفَكُّ عنها ما يقعُ فيها فلذلك اتُّسِع فيها. قال الشيخ: وهذا يُوْهِمُ اختصاص ذلك بالظروف، وهو جارٍ في المفعول به تقول، لولا زيدًا ضَرَبْتَ، ولولا عمرًا قَتَلْتَ.
وقال الزمخشري أيضًا: فإِنْ قلتَ: أيُّ فائدةٍ في تقديمِ الظرف حتى أَوْقَعَ فاصلًا؟ قلت: الفائدة فيه بيانُ أنَّه كان الواجبُ عليهم أن يتفادَوْا أولَ ما سمعوا بالإِفْك عن التكلُّم به، فلمَّا كان ذِكْر الوقتِ أهَّم وَجَبَ تقديمُه. فإنْ قلتَ: ما معنى {يكون} والكلامُ بدونه مُتْلَئِبٌّ لو قيل: ما لنا أن نتكلَّم بهذا؟ قلت: معناه ينبغي ويَصِحُّ، أي: ما ينبغي وما يصِحُّ كقولِه: {مَا يَكُونُ لي أَنْ أَقُولَ} [المائدة: 116].
{يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَدًا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17)}.
قوله: {أَن تَعُودُواْ}: فيه ثلاثةُ أوجهٍ، أحدُها: أنه مفعولٌ من أجلهِ أي: يَعِظُكم كراهةَ أَنْ تعودوا. الثاني: أنه على حَذْفِ {في} أي: في أَنْ تعودوا نحو: وَعَظْتُ فلانًا في كذا فتركه. الثالث: أنَّه ضُمِّن معنى فِعْلٍ يتعدى ب عَنْ، ثم حُذِفَتْ أي: يَزْجُرُكم بالوَعْظِ عن العَوْدِ. وعلى هذين القولين يجْيءُ القولان في محلِّ {أنْ} بعد نَزْعِ الخافضِ. اهـ.

.تفسير الآيات (19- 20):

قوله تعالى: {إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ وَاللَّهُ يَعْلَمُ وَأَنْتُمْ لَا تَعْلَمُونَ (19) وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}.

.مناسبة الآية لما قبلها:

قال البقاعي:
ولما كان من أعظم الوعظ بيان ما يستحق على الذنب من العقاب، أدبهم تأديبًا ثالثًا أشد من الأولين، فقال واعظًا ومقبحًا لحال الخائضين في الإفك ومحذرًا ومهددًا: {إن الذين يحبون} عبر بالحب إشارة إلى أنه لا يرتكب هذا مع شناعته إلا محب له، ولا يحبه إلا بعيد عن الاستقامة {أن تشيع} أي تنتشر بالقول أو بالفعل {الفاحشة} أي الفعلة الكبيرة القبح، ويصير لها شيعة يحامون عليها {في الذين آمنوا} ولو كانوا في أدنى درجات الإيمان فكيف بمن تسنم ذروته، وتبوأ غايته {لهم عذاب أليم} ردعًا لهم عن إرادة إشاعة مثل ذلك لما فيه من عظيم الأذى {في الدنيا} بالحد وغيره مما ينتقم الله منهم به {والآخرة} فإن الله يعلم هل كفر الحد عنهم جميع مرتكبهم أم لا {والله} أي المستجمع لصفات الجلال والجمال {يعلم} أي له العلم التام، فهو يعلم مقادير الأشياء ما ظهر منها وما بطن وما الحكمة في ستره أو إظهاره أو غير ذلك من جميع الأمور {وأنتم لا تعلمون} أي ليس لكم علم من أنفسكم فاعلموا بما علمكم الله، ولا تتجاوزوه تضلوا.
ولما ختم بالحكم عليهم بالجهل، وكان التقدير كما أرشد إليه ما يأتي من العطف على غير معطوف: فلولا فضل الله عليكم ورحمته بكم لعجل هلاك المحبين لشيوع ذلك بعذاب الدنيا ليكون موصولًا بعذاب الآخرة، عطف عليه قوله مكررًا التذكير بالمنة بترك المعاجلة حاذفًا الجواب، منبهًا بالتكرير والحذف على قوة المبالغة وشدة التهويل: {ولولا فضل الله} أي الحائز لجميع الجلال والإكرام {عليكم ورحمته} بكم {وأن} أي ولولا أن {الله} أي الذي له القدرة التامة فسبقت رحمته غضبه {رؤوف} بكم في نصب ما يزيل جهلكم بما يحفظ من سرائركم بإرسال الرسل وإنزال الكتب ونصب الحدود، الزاجرة عن الجهل، الحاملة على التقوى، التي هي ثمرة العلم، فإن الرأفة كما تقدم في الحج وغيرها تقيم المرؤوف به لأنها ألطف الرحمة وأبلغها على أقوم سنن حتى تحفظ بمسراها في سره ظهور ما يستدعي العفو، وتارة يكون هذا الحفظ بالقوة بنصب الأدلة، وتارة يضم إلى ذلك الفعل بخلق الهداية في القلب بما للمرؤوف به من الوصلة بسهولة الانقياد وقوة الاستعداد {رحيم} بما يثبت لكم من الدرجات على ما منحكم به من ثمرات ذلك الحفظ من الأعمال المرضية، والجواب محذوف تقديره: لترككم في ظلمات الجهل تعمهون، فثارت بينكم الفتن حتى تفانيتم ووصلتم إلى العذاب الدائم بعد الهم اللازم. اهـ.

.من أقوال المفسرين:

.قال الفخر:

{إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفَاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيَا وَالْآخِرَةِ}.
النوع السابع:
اعلم أنه سبحانه لما بين ما على أهل الإفك وما على من سمع منهم، وما ينبغي أن يتمسكوا به من آداب الدين أتبعه بقوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ أَن تَشِيعَ الفاحشة} ليعلم أن من أحب ذلك فقد شارك في هذا الذم كما شارك فيه من فعله ومن لم ينكره، وليعلم أن أهل الأفك كما عليهم العقوبة فيما أظهروه، فكذلك يستحقون العقاب بما أسروه من محبة إشاعة الفاحشة في المؤمنين، وذلك يدل على وجوب سلامة القلب للمؤمنين كوجوب كف الجوارح والقول عما يضربهم، وهاهنا مسائل:
المسألة الأولى:
معنى الإشاعة الانتشار يقال في هذا العقار سهم شائع إذا كان في الجميع ولم يكن منفصلًا، وشاع الحديث إذا ظهر في العامة.
المسألة الثانية:
لا شك أن ظاهر قوله: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} يفيد العموم وأنه يتناول كل من كان بهذه الصفة، ولا شك أن هذه الآية نزلت في قذف عائشة إلا أن العبرة بعموم اللفظ لا بخصوص السبب فوجب إجراؤها على ظاهرها في العموم، ومما يدل على أنه لا يجوز تخصيصها بقذفة عائشة قوله تعالى في: {الذين آمَنُواْ} فإنه صيغة جمع ولو أراد عائشة وحدها لم يجز ذلك، والذين خصصوه بقذفة عائشة منهم من حمله على عبد الله بن أبي، لأنه هو الذي سعى في إشاعة الفاحشة قالوا معنى الآية: {إِنَّ الذين يُحِبُّونَ} والمراد عبد الله أن تشيع الفاحشة أي الزنا في الذين آمنوا أي في عائشة وصفوان.
المسألة الثالثة:
روي عن رسول الله صلى الله عليه وسلم أنه قال: «إني لأعرف قومًا يضربون صدورهم ضربًا يسمعه أهل النار، وهم الهمازون اللمازون الذين يلتمسون عورات المسلمين ويهتكون ستورهم ويشيعون فيهم من الفواحش ما ليس فيهم» وعنه عليه الصلاة والسلام: «لا يستر عبد مؤمن عورة عبد مؤمن إلا ستره الله يوم القيامة ومن أقال مسلمًا صفقته أقال الله عثرته يوم القيامة ومن ستر عورته ستر الله عورته يوم القيامة» وعنه عليه الصلاة والسلام: «المسلم من سلم المسلمون من لسانه ويده، والمهاجر من هجر ما نهى الله عنه» وعن عبد الله بن عمر عنه عليه الصلاة والسلام قال: «من سره أن يزحزح عن النار ويدخل الجنة فلتأته منيته وهو يشهد أن لا إله إلا الله وأن محمدًا رسول الله ويحب أن يؤتى إلى الناس ما يحب أن يؤتى إليه» وعن أنس قال: قال عليه الصلاة والسلام: «لا يؤمن العبد حتى يجب لأخيه ما يحب لنفسه من الخير».
المسألة الرابعة:
اختلفوا في عذاب الدنيا، فقال بعضهم إقامة الحد عليهم، وقال بعضهم هو الحد واللعن والعداوة من الله والمؤمنين، ضرب رسول الله صلى الله عليه وسلم عبد الله بن أبي وحسان ومسطح، وقعد صفوان لحسان فضربه ضربة بالسيف فكف بصره، وقال الحسن عنى به المنافقين لأنهم قصدوا أن يغموا رسول الله صلى الله عليه وسلم ومن أراد غم رسول الله صلى الله عليه وسلم فهو كافر، وعذابهم في الدنيا هو ما كانوا يتعبون فيه وينفقون لمقاتلة أوليائهم مع أعدائهم، وقال أبو مسلم: الذين يحبون هم المنافقون يحبون ذلك فأوعدهم الله تعالى العذاب في الدنيا على يد الرسول صلى الله عليه وسلم بالمجاهدة لقوله: {جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عَلَيْهِمْ} [التوبة: 73] والأقرب أن المراد بهذا العذاب ما استحقوه بإفكهم وهو الحد واللعن والذم.
فأما عذاب الآخرة فلا شك أنه في القبر عذابه، وفي القيامة عذاب النار.
أما قوله: {والله يَعْلَمُ وَأَنتُمْ لاَ تَعْلَمُونَ} فهو حسن الموقع بهذا الموضع لأن محبة القلب كامنة ونحن لا نعلمها إلا بالأمارات، أما الله سبحانه فهو لا يخفى عليه شيء، فصار هذا الذكر نهاية في الزجر لأن من أحب إشاعة الفاحشة وإن بالغ في إخفاء تلك المحبة فهو يعلم أن الله تعالى يعلم ذلك منه وإن علمه سبحانه بذلك الذي أخفاه كعلمه بالذي أظهره ويعلم قدر الجزاء عليه.
المسألة الخامسة:
الآية تدل على أن العزم على الذنب العظيم عظيم، وأن إرادة الفسق فسق، لأنه تعالى علق الوعيد بمحبة إشاعة الفاحشة.
المسألة السادسة:
قال الجبائي دلت الآية على أن كل قاذف لم يتب من قذفه فلا ثواب له من حيث استحق هذا العذاب الدائم، وذلك يمنع من استحقاق ضده الذي هو الثواب، فمن هذا الوجه تدل على ما نقوله في الوعيد، واعلم أن حاصله يرجع إلى مسألة المحابطة وقد تقدم الكلام عليه.
المسألة السابعة:
قالت المعتزلة: إن الله تعالى بالغ في ذم من أحب إشاعة الفاحشة، فلو كان تعالى هو الخالق لأفعال العباد لما كان مشيع الفاحشة إلا هو، فكان يجب أن لا يستحق الذم على إشاعة الفاحشة إلا هو، لأنه هو الذي فعل تلك الإشاعة وغيره لم يفعل شيئًا منها، والكلام عليه أيضًا قد تقدم.
المسألة الثامنة:
قال أبو حنيفة رحمه الله: المصابة بالفجور لا تستنطق، لأن استنطاقها إشاعة للفاحشة وذلك ممنوع منه.
{وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ وَأَنَّ اللَّهَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ (20)}.
النوع الثامن:
وفيه وجوه: أحدها: أن جوابه محذوف وكأنه قال لهلكتم أو لعذبكم الله واستأصلكم لكنه رؤوف رحيم، قال ابن عباس الخطاب لحسان ومسطح وحمنة، ويجوز أن يكون الخطاب عامًا والثاني: جوابه في قوله: {مَا زَكَى مِنكُم مّنْ أَحَدٍ أَبَدًا} [النور: 21] والثالث: جوابه لكانت الفاحشة تشيع فتعظم المضرة وهو قول أبي مسلم، والأقرب أن جوابه محذوف لأن قوله من بعد {وَلَوْلاَ فَضْلُ الله عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ مَا زَكَى مِنكُم مِّنْ أَحَدٍ} [النور: 21] كالمنفصل من الأول فلا يجب أن يكون جوابًا للأول، خصوصًا وقد وقع بين الكلامين كلام آخر، والمراد أنه لولا إنعامه بأن بقي وأمهل ومكن من التلافي لهلكوا، لكنه لرأفته لا يدع ما هو للعبد أصلح وإن جنى على نفسه. اهـ.